الخميس، 7 مارس 2013

عرش الرحمن



عرش الرحمن
بين ضجيح العابرين على أرض البشر إلى سكون السماء ونزهة الروح ، بلغة تخاطب حيرة الإنسان نزلت النصوص السماوية لتصرح عن " العرش " أعظم ما خلق الرب من مخلوقات.

لم تُشبع تلك النصوص فضول الإنسان الكبير لمعرفة خفايا الامور مثلها مثل خفايا العوالم الأخرى وسكانها من الموتى والملائكة والجن والشياطين فما بالك عن تساؤله عن العرش العظيم الذي يستوي عليه الرب ، عن مكانه و شكله وحجمه ، عن بنيته من العناصر ومادته، عن ضرورة وجوده ( ما دام الرب موجوداً في كل مكان ) وكذلك حول طريقة نقل الملائكة للأوامرالربانية منه.

 وخلال بحث الإنسان عن إجابات وفي محاولات منه لإكمال الصورة الناقصة بما يتلاءم مع معتقده وثقافته اجتهد في تأملاته وتصورات مستعيناً بملكة الخيال مما أسهم في ظهور بعض الأساطير المستوحاة من النص الديني .

في هذا المقال جمعنا ما كان لنا في محاولة متواضعة جداً أمام عظمة المخلوق الذي نتناوله والذي يصعب تصوره لعلنا نهدأ قليلاً من دوامة الأسئلة في العقول.
معنى العرش
العرش في التعريف اللغوي هو كرسي أو مقعد رسمي يجلس عليه الملك ليدير شؤون ولايته أو مملكته وقد يقتصر جلوسه عليه في مناسبات معينة من السنة أو في مراسم التتويج، فكيف إذا كانت المملكة تشمل جميع السماوات والأرض وسائر أرجاء الكون بمجراته وكواكبه التي لا تحصى فلا شك أن الملك هو الرب ويكون عرشه المكان الذي تصدر منه الأوامر لتنفذها الملائكة لإدارة شؤون العوالم ومخلوقاتها

- قد يكون للعرش معنى مجرد يشير إلى الملكية أو التاج ذاته ، وقد تستخدم كلمة عرش أيضاً كناية عن السلطة المهيمنة . وتشير كلمة "ثرونوس " الإغريقية إلى العرش حيث تعني الكرسي أو المقعد وقد تعني أيضاً " القطب التي تبذل من أجله الأضاحي " في جذرها السنسكريتي ، وقد استخدمها قدماء الإغريق كمصطلح يعني "دعم السماوات".

عروش الآلهة
في الشرق الأدنى القديم على وجه الخصوص كانت الملوك والآلهة دائماً تصور في المنحوتات وهي جالسة على عروشها، كما في منحوتات الفراعنة حيث اعتبر الملك الفرعوني هو الإله في بعض الفترات التاريخية.

 وفي المعتقدات الإغريقية كان يشار دائماً إلى عرش يجلس عليه (زيوس) كبير الآلهة في جبل الأولمب وبعرف باسم "عرش زيوس" والرسم يبين ما كان عليه في أحد المعابد.

وقد عرف عن شعب الأخائيين ( من الشعب الإغريقي) أنهم كانوا يضعون عروشاً فارغة في قصورهم الملكية وفي معابدهم لكي تجلس عليها الآلهة إن رغبت بذلك وكان من أشهرها عرش أبوللو في مدينة أميكلائي.

كذلك كان للرومان نوعان من العروش الأولى هو عروش مخصصة للإمبراطور والثانية مخصصة للألهة (روما ) التي كانوا يجلسون أصنامها على هذه العروش لتكون محور أو مركز العبادة. علماً أن روما هي آلهة أنثى تجسد مدينة روما في معتقدات الرومان.

في الديانات السماوية
تتفق الديانات السماوية وخاصة الإبراهيمية منها كاليهودية و المسيحية والإسلامية على وجود عرش سماوي لله يجسد الهيمنة المطلقة على كل السماوات والأرض ومن فيهما من مخلوقات وهو بمثابة مركز تصدر منه الأوامر الإلهية.

المعتقد اليهودي
ذكر التوارة أن للرب عرش في عدة مواضع حيث بدأ التوارة بآيات تنص على أن روح الله على الماء ، وهذا قد يعني أن العرش على الماء.

- " 1 في البدء خلق الله السماوات والأرض 2 وكانت الأرض خربة وخالية ، وعلى وجه الغمر ظلمة ، وروح الله يرف على وجه المياه " ( سفر التكوين - 1)

لكن مفهوم الدين اليهودي لعرش الرب يرتكز بشكل أساسي على رؤى 4 أنبياء من بني إسرائيل كانت قد ذكرت في العهد القديم من الكتاب المقدس وهم ميخا وأشعيا وحزقيال ودانيال . ويقال أن العرش يقع فوق السماء السابعة التي تدعى أرابوث Araboth.

كما ذكر في سفر الخروج أن النبي موسى ومعه عدد من القوم رأوا موطئ قدم الرب وأنه يشبه العقيق الأزرق الشفاف كما يأتي :

" 9 ثُمَّ صَعِدَ مُوسَى وَهَارُونُ وَنَادَابُ وَأَبِيهُو وَسَبْعُونَ مِنْ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ، 10 وَرَأَوْا إِلهَ إِسْرَائِيلَ، وَتَحْتَ رِجْلَيْهِ شِبْهُ صَنْعَةٍ مِنَ الْعَقِيقِ الأَزْرَقِ الشَّفَّافِ، وَكَذَاتِ السَّمَاءِ فِي النَّقَاوَةِ " (سفر الخروج 24 )

ومنذ بداية البشرية اعتبر العقيق الأزرق من الاحجار الكريمة وقد أشارت النصوص المقدسة باستمرارعلى وجوده حول العرش ، كذلك كان الكهنة من قبائل اليهود يرتدونه في ملابسهم على صدورهم وكانت تحتوي الحجارة على أسماء ميخا و اشعيا وحزقيال ودانيال الذين تحدثوا عن العرش رغم أن فلاسفة مثل ساغون وابن ميمون فسروا تلك الرؤة على أنها " أمور رمزية " فقط.

- جرى ذكر العرش السماوي أيضاً في 3 مواضع من مخطوطات البحر الميت فكان لاحقاً موضوعاً ملهماً لدراسات حركات التصوف اليهودية الاولى (ميركافا) .

1- رؤيا ميخا بن يملة
كانت رؤيا ميخا أول رؤية مفصلة لحجرة عرش الرب السماوية في اليهودية وتعتبر تلك الحجرة بمثابة المحكمة الإلهية، ونجد في سفر الملوك :

" 19 وقال فاسمع اذا كلام الرب.قد رايت الرب جالسا على كرسيه وكل جند السماء وقوف لديه عن يمينه وعن يساره " (سفر الملوك 1 - 22).

2- رؤيا أشعيا بن أموص
في رؤيا أشعيا نجد ذكراً لكرسي عال ووصف دقيق للملائكة التي تحمل العرش أو التي كانت بجواره ، وهي طبقة أو صنف من تدعى السرافيم وكلمة سيرافيم كلمة عبرية معناها " محرقة أو متقدة بالنار "، وعمل السيرافيم هو تسبيح الله، فيقولون على الدوام " قدوس قدوس قدوس " ، ولم يذكر في الكتاب المقدس أن أحداً من صنف السيرافيم قد سقط من السماء على عكس صنف الكروبيم الذي سقط منه إبليس.

حيث ورد في سفر أشعيا :

" 1 في سنة وفاة عزيا الملك رايت السيد جالسا على كرسي عال ومرتفع واذياله تملا الهيكل. 2 السرافيم واقفون فوقه لكل واحد ستة اجنحة باثنين يغطي وجهه وباثنين يغطي رجليه وباثنين يطير 3 وهذا نادى ذاك وقال قدوس قدوس قدوس رب الجنود مجده ملء كل الارض 4 فاهتزت اساسات العتب من صوت الصارخ وامتلا البيت دخانا 5 فقلت ويل لي اني هلكت لاني انسان نجس الشفتين وانا ساكن بين شعب نجس الشفتين لان عيني قد راتا الملك رب الجنود" . (سفر إشعيا - 6) .

3- رؤيا حزقيال
كان حزقيال أحد أنبياء بني إسرائيل وفق المعتقد اليهودي ، وقد جاءته رؤاه مفصلة عن عرش يبدو أنه متحرك ويسير على ما يشبه عجلات من النور أو النار ، وقد قدم وصفاً لـ 4 من الملائكة التي تسير بها، حيث وصف أن لكل منها 4 وجوه و4 أجنحة، ومن ثم سمع الرب يكلمه ليسند له مهمة هداية قوم عصوه، كما في النص التالي:

 " 4 فنظرت واذا بريح عاصفة جاءت من الشمال.سحابة عظيمة ونار متواصلة وحولها لمعان ومن وسطها كمنظر النحاس اللامع من وسط النار. 5 ومن وسطها شبه اربعة حيوانات وهذا منظرها لها شبه انسان. 6 ولكل واحد اربع اوجه ولكل واحد اربعة اجنحة. 7 وارجلها ارجل قائمة واقدام ارجلها كقدم رجل العجل وبارقة كمنظر النحاس المصقول. 8 وايدي انسان تحت اجنحتها على جوانبها الاربعة.ووجوهها واجنحتها لجوانبها الاربعة. 9 واجنحتها متصلة الواحد باخيه.لم تدر عند سيرها.كل واحد يسير الى جهة وجهه. 10 اما شبه وجوهها فوجه انسان ووجه اسد لليمين لاربعتها ووجه ثور من الشمال لاربعتها ووجه نسر لاربعتها. 11 فهذه اوجهها.اما اجنحتها فمبسوطة من فوق.لكل واحد اثنان متصلان احدهما باخيه واثنان يغطيان اجسامها. 12 وكل واحد كان يسير الى جهة وجهه.الى حيث تكون الروح لتسير تسير.لم تدر عند سيرها. 13 اما شبه الحيوانات فمنظرها كجمر نار متقدة كمنظر مصابيح هي سالكة بين الحيوانات.وللنار لمعان ومن النار كان يخرج برق 14 الحيوانات راكضة وراجعة كمنظر البرق. 15 فنظرت الحيوانات واذا بكرة واحدة على الارض بجانب الحيوانات باوجهها الاربعة. 16 منظر البكرات وصنعتها كمنظر الزبرجد.وللاربع شكل واحد ومنظرها وصنعتها كانها كانت بكرة وسط بكرة. 17 لما سارت سارت على جوانبها الاربعة.لم تدر عند سيرها. 18 اما اطرها فعالية ومخيفة.واطرها ملانة عيونا حواليها للاربع. 19 فاذا سارت الحيوانات سارت البكرات بجانبها واذا ارتفعت الحيوانات عن الارض ارتفعت البكرات. 20 الى حيث تكون الروح لتسير يسيرون الى حيث الروح لتسير والبكرات ترتفع معها.لان روح الحيوانات كانت في البكرات. 21 فاذا سارت تلك سارت هذه واذا وقفت تلك وقفت.واذا ارتفعت تلك عن الارض ارتفعت البكرات معها لان روح الحيوانات كانت في البكرات. 22 وعلى رؤوس الحيوانات شبه مقبب كمنظر البلور الهائل منتشرا على رؤوسها من فوق. 23 وتحت المقبب اجنحتها مستقيمة الواحد نحو اخيه.لكل واحد اثنان يغطيان من هنا ولكل واحد اثنان يغطيان من هناك اجسامها. 24 فلما سارت سمعت صوت اجنحتها كخرير مياه كثيرة كصوت القدير صوت ضجة كصوت جيش.ولما وقفت ارخت اجنحتها. 25 فكان صوت من فوق المقبب الذي على رؤوسها.اذا وقفت ارخت اجنحتها. 26 وفوق المقبب الذي على رؤوسها شبه عرش كمنظر حجر العقيق الازرق وعلى شبه العرش شبه كمنظر انسان عليه من فوق. 27 ورايت مثل منظر النحاس اللامع كمنظر نار داخله من حوله من منظر حقويه الى فوق ومن منظر حقويه الى تحت رايت مثل منظر نار ولها لمعان من حولها 28 كمنظر القوس التي في السحاب يوم مطر هكذا منظر اللمعان من حوله.هذا منظر شبه مجد الرب.ولما رايته خررت على وجهي.وسمعت صوت متكلم " ( سفر حزقيال - 1)

" 1 فقال لي يا ابن ادم قم على قدميك فاتكلم معك. 2 فدخل في روح لما تكلم معي واقامني على قدمي فسمعت المتكلم معي. 3 وقال لي يا ابن ادم انا مرسلك الى بني اسرائيل الى امة متمردة قد تمردت علي. هم واباؤهم عصوا علي الى ذات هذا اليوم" (سفر حزقيال - الإصحاح 2).

- من الجدير بالذكر أن عدداً من النظريات تعتبر رؤى حزقيال دليلاً قديماً على ظاهرة الأجسام الطائرة المجهولة ( يوفو ) وعلى المخلوقات الفضائية التي كانت تعبد ، وهذا المفهوم ساعد في قيام حركات دينية في العصر الحديث مثل الرائيلية و جماعة مشروع البوابة وبعض أفكار السيتنولوجيا وهي تقوم على فكرة أن الجنس البشري صنيعة تجارب مخبرية أجرتها مخلوقات تعيش في كواكب بعيدة من الفضاء الخارجي .

4- رؤيا دانيال
لم تختلف رؤيا النبي دانيال عن رؤيا حزقيال بشأن العرش المتحرك على عجلات نيرانية ، لكن كانت هناك عروش مجاورة لعرش الرب في رؤيته :

" 9 كنت ارى انه وضعت عروش وجلس القديم الايام.لباسه ابيض كالثلج وشعر راسه كالصوف النقي وعرشه لهيب نار وبكراته نار متقدة "( حزقيال - 7)

مركبة عرش الرب
ذكرت كلمة (ميركابا ) العبرية 44 مرة في العهد القديم من الكتاب المقدس ويرتبط مفهومها برؤيا حزقيال على الرغم أنها ليست مذكورة فيه كما تقدم ، وهي كلمة تشير إلى مركبة عرش الرب التي تسير على 4 عجلات كما في السيارة .

تتكون المركبة من 4 من الملائكة التي تصنف في رتبة السيرافيم ( المتقدة بالنور ولاأقرب للرب ) بحيث يمكنها جرها إلى الجهات الأربع ويقود الملائكة " شبه الإنسان" الذي يجلس على عرش من الياقوت .

لكل ملاك منها 4 أجنحة و 4 وجوه هي لنسر وثور و إنسان وأسد ، ويوجد في الجانب الشرقي من المركبة شبه الإنسان- والذي يقوم بدفع العربة ويجلس على عرش من الياقوت.

تلتقي أجنجة الملائكة مع ملائكة الطرف المقابل لتشكل مربعاً من الاجنجة يحيط بالمركبة وبالنسبة لعجلات المركبة فهي أقدام الملائكة وهي لا تقع تحت العربة إنما بمحيطها.

تشبه تلك الملائكة ومضات ونازلة ومستمرة من النار وهي وقود لحركة المركبة وهي الأعلى رتبة بين الملائكة لأنها الأقرب من الرب حيث تدعى السيرافيم ثم يليها صنف يدعى شاروبيم ويليه في الرتبة أورفانيم، تبقى المركبة في حالة مستمرة من الحركة والطاقة وراء تلك الحركة تستمد من التراتب الهرمي للملائكة ، فحركة الأورفانيم متحكم بها من الشاروبيم وحركة الشاروبيم متحكم بها من السيارفيم. وجميع حركات الملائكة في المركبة يتحكم بها " الذي يشبه الإنسان " على العرش.

- درس طلاب حركات التصوف ومنها حركة ( ماسائي ميركافا ) الاولى في تاريخ التصوف اليهودي ولاحقاً طلاب الـ كابالا هذه المقاطع من سفر حزيقال فبحثوا فيها عن المعاني الباطنية وأسرار الخلق وذلك في الفترة الهلنسية المتأخرة مما شجعهم على استنباط معان استعارية للآيات وذلك بعد تدمير الهيكل الثاني في عام 70 للميلاد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مدونة عالم المعرفة

مدونة عالم المعرفة