الأربعاء، 13 فبراير 2013

سيئاتك بدلها حسنات


بسم الله الرحمن الرحيم



العبد بعد موْته لن ينفعَه أهلُه، ولا ماله، ولا جاهه، ولا سُلْطانه، ولا أصحابه، ولا..، ولا..،

إنما ينفعه عمله الصالح؛ لِمَا جاء ذلك في الحديث عن أنس بن مالك،

قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يَتْبَع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد، يَتْبَعه أهله وماله وعمله، فيرجِع أهله وماله، ويبقى عملُه))؛ رواه البخاري (6514)، ومسلم (2960)،

ففيه: حثٌّ للعبد على أن يعملَ عملاً صالحًا ينفعه بعد موْته، يؤنس وحْشَته في قبْره، ويُبَيِّض وجْهه عند لقاء ربِّه: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [آل عمران: 106]. 


فالذي ينفع العبد بعد موته، ويبقى له من رصيد حياته الدنيوية - أمواله وثرواته - ما قدَّمه في حياته من عمل صالح؛ ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46]. 

فهذا هو الذي ينفع العبد ويبقى له، الإيمان بالله، وإتْباع ذلك بالعمَل الصالح، وبذلك يكون العبد قد أمَّن مُستقبله الحقيقي بعد موْته. 

﴿ \"فَلا يَخَافُ ظُلْمًا ﴾؛ أي: زيادة في سيئاته، ﴿ وَلا هَضْمًا ﴾؛ أي: نقْصًا من حسناته، بل تُغْفر ذنوبُه، وتُطَهَّر عيوبه، وتُضاعَف حسناته؛ ﴿ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40]\"؛ تفسير السعدي، ص 514. 

وإذا مات العبد فقد انقطَع عمله؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا مات الإنسانُ، انقطَع عنه عمله، إلاَّ من ثلاثة...))؛ رواه مسلم 1631. 
 

أي: انقطَع عنه مباشَرة عمله، وبَقِي له أجْر ما قدَّمه من أعمال صالحة، وذلك في الأعمال الصالحة التي ينتفع العباد منها بعد موته، فأجْرُها وثوابها مُستمرٌّ لصاحبها ما بَقِيت تلك الأعمال يُنتفَع بها. 

وإليك ذِكْر هذه الأعمال مُدعمة بالدليل من الكتاب والسُّنة الصحيحة، وهي كالتالي:

أولاً: الصدقات الجارية 

1- طباعة المصحف (القرآن الكريم) وتوزيعه، ويدخل في ذلك طباعة كُتب السُّنة الصحيحة، كالبخاري ومسلم، وسائر كتب السُّنة الصحيحة...، وكذلك طباعة الأشرطة الإسلامية وتوزيعها، وكل وسيلة علميَّة يَنتفع الناس بها، ويُنشر الخير بها. 

2- بناء المساجد ابتغاء وجْه الله، ويدخل في ذلك وقْف مصليات العيد، وبناء المراكز الشرعية، والمعاهد العلمية، ونحو ذلك.

3- بناء البيوت، وإيقافها على ابن السبيل، وسائر المحتاجين للإيواء.

4- حفْر الآبار؛ ليشرب منها العباد، ويسقون، ويزرعون.


ومما يدخل في الصدقات الجارية، إصلاح الطرق؛ قال ابن عثيمين: \"ومن الصدقات الجارية: إصلاح الطرق، فإن الإنسان إذا أصلَح الطرق، وأزال عنها الأذى، واستمر الناس ينتفعون بهذا، فإن ذلك من الصدقات الجارية، والقاعدة في الصدقة الجارية: كلُّ عمل صالح يستمرُّ للإنسان بعد موْته\"؛ \"شرح رياض الصالحين\"، (5/ 438).

ثانيًا: دعاء الولد لوالديه بعد موتهما.

ثالثًا: نشْر العلم الشرعي بين الناس،

ويدخل في ذلك تأليف الكُتب العلمية النافعة، وكتابة الردود العلمية، وسائر فُنون العلوم الشرعية النافعة






ثالثًا: زارعة الأشجار المثمرة:

لِمَا جاء في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما من مسلم يغرس غَرْسًا، أو يزرع زرْعًا، فيأكل منه طيْرٌ، أو إنسان، أو بَهيمة، إلاَّ كان له به صدقة))؛ رواه البخاري (2320)، ومسلم (1553).

ولِمَا جاء في حديث جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما من مسلم يغرس غرْسًا، إلاَّ كان ما أُكِل منه له صدَقة، وما سُرِق منه له صدقة، وما أكَل السَّبُع منه فهو له صدقة، وما أَكَلتِ الطَّيْر فهو له صدقة، ولا يَرْزَؤه - أي ينقصه ويأخذ منه - أحدٌ، إلاَّ كان له صدقة))؛ رواه مسلم (1552).

قال النووي - رحمه الله -: \"في هذه الأحاديث فضيلة الغرْس، وفضيلة الزرع، وأنَّ أجْرَ فاعلي ذلك مستمرٌّ ما دام الغراس والزرع، وما تولَّد منه إلى يوم القيامة\"؛ \"شرح النووي على صحيح مسلم\"، (10/ 213).




رابعًا: الدعوة إلى الله بالحِكمة والموعظة الحسنة:

لِمَا جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن دعا إلى هدى، كان له من الأجْر مثل أجور مَن تَبعه، لا يَنْقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومَن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تَبعه، لا يَنقص ذلك من آثامهم شيئًا))؛ رواه مسلم (2674)، وفي الحديث الآخر يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن دلَّ على خير، فله مثل أجْر فاعله))؛ رواه مسلم (1893).

ومعنى قوله: ((مَن دعا إلى هدى))، \"يعني: بيَّنه للناس، ودعاهم إليه، مثل أنْ يُبيِّن للناس أن ركعتي الضحى سُنَّة، وأنه ينبغي للإنسان أن يصلي ركعتين في الضحى، ثم تَبِعه الناس وصاروا يصلون الضحى، فإنَّ له مثلَ أجورهم مِن غير أن ينقصَ مِن أجورهم شيئًا؛ لأن فضْلَ الله واسع، أو قال للناس مثلاً: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وِتْرًا، ولا تناموا إلا على وِتْرٍ، إلاَّ من طَمِع أن يقوم من آخر الليل، فليجعل وِتْره في آخر الليل، فتَبِعه ناسٌ على ذلك، فإن له مثل أجْرهم؛ يعني: كلما أوْتَر واحد هداه الله على يده، فله مثل أجْره، وكذلك بقيَّة الأعمال الصالحة\"؛ \"شرح رياض الصالحين\"، (2/360).

وهكذا كل مَن دعا الناس إلى هدى - بقوله أو بفعْله - فله مثل أجْر مَن اتَّبعه إلى يوم القيامة، ويأتي في مقدمة الدُّعاة إلى الله نبيُّنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأجُر هذه الأمة المباركة كلها يصل إليه، ويناله ثواب ذلك كله؛ قال ابن عثيمين: \"فعمل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - نفسه بعد موته لا يمكن، لكنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُكتب له أجْر كل ما عَمِلته الأمة، كلُّ ما عَمِلْنا من خيرٍ وعمل صالح - مِن فرائض ونوافل - فإنه يُكتب أجْرُه للرسول - عليه الصلاة والسلام - لأنه هو الذي علَّمنا\"؛ \"شرح رياض الصالحين\"، (2/ 258).

فهذه الأعمال الصالحة يستمر أجْرُها لفاعلها بعد موته، ما دامت هذه الأعمال يُنتفع بها؛ قال المناوي - رحمه الله -: \"أي هذه الأعمال يجري على المؤمن ثوابُها من بعد موته، فإذا مات انقطَع عمله إلاَّ منها\"؛ \"فيض القدير\"، (2/540).

فهنيئًا لِمَن قدَّم لنفسه عملاً صالحًا في حياته، واستمرَّ له أجرُ ذلك بعد موته، وهنيئًا ثم هنيئًا لِمَن أسهَم في جميع تلك الأعمال الخيرية النافعة، مُبْتغيًا بذلك وجْهَ الله، فذاك قد حاز على أعلى المراتب، وذلك فضْلُ الله يؤْتِيه مَن يشاء، ولكنَّك أخي لن تُحْرَم الخير، فينبغي أن يكون لك سهمٌ ونصيبٌ في فعْل الخير، فإذا كنتَ ثريًّا غنيًّا ذا مال، فابذُلْ مالَك في وجوه البرِّ؛ ابْنِ مسجدًا، احفر بئرًا للمسلمين، اطبعْ كُتبًا علمية، أو أشرطة إسلامية نافعة، أَسْهِمْ في جميع أعمال البر التي تَبْقى آثارُها بعد موتك، وإن كنتَ عالِمًا فابذل عِلْمك بين الأنام، وقُمْ بالدعوة إلى الله على الوجْه المطلوب شرعًا، وإن كنتَ أبًا أو أُمًّا، فاحرِصْ على تربية أولادك تربية حسنة؛ حتى يدعوا لك بعد موتك، وإن لَم تكن من هؤلاء جميعًا، فلتكن لك نيَّة حسنة، فإنك تؤْجَر على ذلك؛ لحديث أبي كبشة الأنماري، وفيه أنه سَمِع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنما الدنيا لأربعة نفرٍ: عبد رزَقه الله مالاً وعِلمًا، فهو يتَّقي فيه ربَّه، ويَصِل فيه رَحِمه، ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزَقه الله عِلمًا ولَم يرزقْه مالاً، فهو صادق النيَّة، يقول: لو أنَّ لي مالاً، لعملتُ بعمل فلان، فهو بنيَّته، فأجْرهما سواء...))؛ الحديث رواه الترمذي (2325)، وقال: \"هذا حديث حسن صحيح\"، وأحمد (18031)، وقال الألباني: \"صحيح لغيره\"؛ كما في \"صحيح الترغيب والترهيب\" (16).

والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مدونة عالم المعرفة

مدونة عالم المعرفة